Wednesday, December 12, 2007

دكتور جابر قميحة يكتب : موتوا بغيظكم .. الاسلام دين ودولة !




في مساء الثلاثاء 27 من نوفمبر 2007م، في برنامج العاشرة مساءً: "فاجأنا الشيخ خالد الجندي بقوله: علينا أن نفصل بين الدين والسياسة، فلا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، فالدين دين، والسياسة سياسة؛ لأن الدين ثابت، والسياسة متغيرة".وهذا من أعجب العجب، فقد حاولت أن أفهم عبارته الأخيرة، فلم أستطع، وخصوصًا في شقها الأول، فالإسلام فيه ثوابت لا تتغير، وفيه متغيرات، تأخذ بالأعراف ومصالح الناس، وتتغير بتغير واقعهم، ونحن نعلم أن الإمام الشافعي له مذهبان: مذهب في العراق، ومذهب في مصر، حينما انتقل إليها، وكان مجال ذلك هو المتغيرات التي تتسع لمصالح الناس وأعرافهم، أما الثوابت التي تمثل نخاع الدين، فلا تتغير بتغير الزمان والمكان، كأركان الإسلام مثلاً، ويذهب الشيخ خالد إلى أن الدين بطهارته ونقائه، يجب ألا يهبط إلى مستوى السياسة التي تقوم على المغايرة واللف والدوران والخداع، فعزل الدين عن السياسة إنما هو إكرامٌ للدين، وحفظٌ لمكانته السامية حتى لا ينزل إلى مستنقع السياسة.

وهي المقولة التي أقام عليها علي عبد الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" وتبناها بعد ذلك العلماني المشهور محمد سعيد العشماوي في كتابه "الإسلام السياسي" فيقول: "يجب أن ننزه الإسلام بعزله عن السياسة؛ لأنه قيم عليا، والسياسة فسادٌ وشرورٌ وانحطاط".فهي دعوة علمانية ضليعة تصدى لها كثيرٌ من المفكرين الإسلاميين.بل الإسلام دين ودولة وسياسية:ومع أننا غير حريصين على أن نستشهد بأقوال الغربيين في هذا المجال وغيره، أراني مضطرا إلى الاستشهاد بقول العدول منهم:فالإسلام دين ودولة، وشريعة ومنهاج، ونظام عمل، إنها بديهية لا يؤيدها واقع التشريع الإلهي فحسب، ولكن يؤيدها واقع التاريخ في مسلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين من بعده. وهذه الحقيقة اعترف بها منصفو المستشرقين:ـ يقول فتزوجرالد: "ليس الإسلام دينًا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضًا".ـ ويقول نلينو: "لقد أسس محمد في وقت واحد دينًا ودولة، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته".ـ ويقول ستروثمان: "الإسلام ظاهرة دينية سياسية، إذ أن مؤسسه كان نبيًّا، وكان سياسيًّا حكيمًا "أو رجل دولة".ـ ويقول توماس أرنولد: "كان النبي في نفس الوقت رئيسًا للدين، ورئيسًا للدولة".************

بدأ المجتمع السياسي ـ أو الدولة ـ حياته الفعلية، وأخذ يؤدي وظائفه، ويحول المبادئ النظرية إلى أعمال بعد أن استكمل حريته وسيادته، وضم إليه عناصر جديدة، ووجد له وطنًا على أثر بيعتي العقبة بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفود المدينة، وما تلاهما من الهجرة.وقد نصت المادة الأولى من الاتفاقية الخاصة بحقوق الدول، وواجباتها التي عقدتها الدول الأمريكية في مونتفديو في 26 من ديسمبر سنة 1933م، على ما يأتي:يجب لكي تعتبر الدول شخصًا من أشخاص القانون الدولي أن تتوافر فيه الشروط التالية:1ـ شعب دائم.2ـ إقليم محدود.3ـ حكومة.4ـ أهلية الدخول في علاقات مع الدول الأخرى.وبدون تعمُّل أو إسراف نستطيع أن نقول: إن المجتمع الذي استقر على أرض المدينة كان ـ بوجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى مدى عشر سنوات ـ يمثل بكل معنى الكلمة دولة متكاملة، لها كل الشرائط والأركان السابقة:ـ فالمدينة رقعة من الأرض، أو إقليم له حدوده المميزة المعروفة عند سكانها وغيرهم.ـ والشعب هو جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين الذين تركوا أموالهم وديارهم من أجل عقيدتهم،


وقد جمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين هذه العناصر، وصهرها في بوتقة واحدة، فربطت بينهم قيم الحب، والإخاء، والإيثار.ـ أما الحكومة فهي حكومة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد اعتمدت في الحكم على ركائز إنسانية، من أهمها الشورى والعدل.ـ وكل أولئك جعل لهذه الدولة الجديدة أهلية كاملة في التعامل ـ كشخصية اعتبارية ـ مع الآخرين. بل إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باشر مهماته السياسية عند وصوله إلى المدينة مباشرة، فكتب "دستور المعايشة"، وهو يعد من أطول كتبه، إن لم يكن أطولها، وهو ينظم العلاقات الاجتماعية، والقانونية، وأسلوب التعامل، ويحدد الحقوق والواجبات في حالتي الحرب والسلم في هذا المجتمع الجديد بما فيه من مهاجرين وأنصار، وجماعات، وقبائل اليهود.وفيه تقنين لخروج الإنسان من إطار القبيلة والقبيلة إلى رحاب الدولة والأمة..

واستن هذه الدستور بسنن التكافل بين رعية الأمة وجماعاتها في مختلف الميادين، سواء كانت الميادين مادية أو معنوية.. وهذا الدستور الجديد لهذه الدولة الجديدة لم ينسخ ـ جملة وبإطلاق ـ كل أعراف الجاهلية، بل أقر منها ما هو صالح لا يتعارض مع روح الشريعة، ولا يتصادم مع التطور الجديد.فالدولة الإسلامية قد قامت في الأصل لتحل محل الكسروية والقيصرية، أي أنها قضت على تأليه الفرد، وعلى سلطانه المطلق، ولم تجعل إرادة الحاكم أو الحكام أساس الدولة، بل جعلت أساسها القانون.. وهذا القانون يرمي إلى تحقيق العدل المطلق والمصلحة العامة، لا إلى تحقيق إرادة الحكام أو الطبقات.وانطلاقًا من هذا المفهوم الشمولي لا يعرف الإسلام هذه التفريقات التي شاعت واشتهرت بين ما يسمى بالسلطة الزمنية، والسلطة الدينية، أو بين الدين والدولة، وكان ابن القيم على حق حين كتب أن "تقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وتقسيم الدين إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل. بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسيم إلى قسمين: صحيح وفاسد،

فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها".ومن ثم أطلق الفقهاء على "سياسة الحكم" مصطلح "السياسة الشرعية"، وهي تعني "تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية، بما يكفل تحقيق المصالح ورفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة".وكانت المثالية هي الطابع الواضح لهذه الدولة التي أثبتت وجودها، وهزمت قوى البغي والشر والشرك، وتشربت القيم الإنسانية العليا، ولكن هذه المثالية لم تكن مثالية تجريدية محلقة في الخيال مُبعدة في التسامي، ولكنها كانت "مثالية واقعية" أو "واقعية مثالية" ـ إن صح هذا التعبير ـ لأن الأخلاق الحقيقية "هي التي تضع الضمير الإنساني في وضع متوسط بين المثالي والواقعي، وتجعله يدمج بينهما، وهذا الدمج يؤدي إلى تغيير مزدوج في كليهما: ففي عالم الواقع يحدث جديد، هو الاتجاه نحو الأفضل، كما أن القاعدة المثالية ي الأخرى باحتكاكها بالحقيقة الحسية تعدل نفسها لتلائم الواقع، فإذا حتدم النزاع بين واجبين فقد يتعين أن يُخلى أحدهما السبيل أمام الآخر، أو تحتم طبيعة العلاقات المركبة بين الأشياء إيجاد نوع من التوفيق بينهما، أو يسمح الجانب غير المحدد من القاعدة باختيار حر يؤكد إنسانية الإنسان".

وهكذا نرى أن الإلزام الخلقي يستبعد "الخضوع المطلق" مثلما يستبعد "الحرية الفوضوية" ويضع الإنسان في موضعه الحقيقي بين "المادة الصرف" و "الروح الصرف".وهذا هو الجوهر الحقيقي لطبيعة "الوسطية العادلة" التي اعتمدت عليها قائمة القيم الإسلامية، وأشار إليها القرآن بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ............إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة : 143 ).وقد أخذ المسلمون من الرعيل الأول أنفسهم بهذه القيم التي تهدف إلى صلاح أمور الدين والدنيا، وكان أخذ النفس بها مرتبطًا بقدر الاستطاعة، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ومن ثم لم يعجز المسلمون عن الامتثال لها .وتأتي المسئولية عن قيام الأمة عامة شاملة، لا يختص بها فرد دون فرد، قد تختلف في شكلها وموضوعها ودرجاتها، ولكنها تتفق مع ضرورة اضطلاع كل فرد "حاكمًا كان أو محكومًا" بجزء من المسئولية عن جانبٍ من كيان الأمة، ثم تقع على كل فرد من أفرادها بالتضامن مسئولية بقائها وسلامتها، فالكل راع والكل مسئول عن رعيته.

وقد كتبنا من قبل أن الإسلام يرفض الإطلاقات الحديثة مثل: الإسلام السياسي، والإسلام الاجتماعي، والإسلام الاقتصادي، والإسلام التربوي ... إلخ .لأن "الإسلام إسلام . فهو ـ كما ذكرنا ـ دين ودولة، ومنهاج ونظام وعمل، وتربية وسلوك. وما أصدق ابن القيم حين قال: "تقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة، كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة، وحقيقة، وتقسيم الدين إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل. بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد،

فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها". (إعلام الموقعين 4/ 375).ومن ثم أطلق الفقهاء على "سياسة الحكم" مصطلح "السياسة الشرعية"، وهي تعني: تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح، ورفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة.****والكلام يمكن أن يطول جدًّا في هذا الموضوع، ولكننا نكتفي بهذا القدر، ثم نوجه سؤالينا الآتيين للأخ الأستاذ خالد الجندي: أما زال مصرًا على مقولته التي أشرنا إليها، وهي مقولة ـ كما ذكرنا ـ ابتدعها علي عبد الرازق، وتبناها محمد سعيد عشماوي، ومدرسة غلاة العلمانيين من مفكريين وسياسيين ؟. وهل أنشأ النبي– صلى الله عليه وسلم – الدولة الإسلاميةلتنتهي بموته , أم لتكون نموذجا يحتذى في كل بلاد المسلمين في كل زمان ومكان ؟komeha@menanet.netl

No comments: